هل حان موعد شدّ أحزمة الإنفاق في دول الخليج العربي؟
بدأت الحكومات الخليجية تدرس التخفيف من التزامات إنفاقها وتقليصها، وهي تستعد لتخفيض موازناتها في المستقبل، بعدما إرتفع سعر تعادل النفط بالنسبة إلى توازن موازناتها. ولكن هل تستطيع تنفيذ ذلك؟ وبأي ثمن؟
أبو ظبي – عمّار الحلّاق
البيان الصادر عن صندوق النقد الدولي في منتصف حزيران (يونيو) الفائت، بعد تنقيحه الأخير، بالنسبة إلى نظرته إلى إقتصاد البحرين لم يكن مفاجئاً لأحد في المنامة. مع إرتفاع الدين العام ووتوقّع نمو معتدل فقط في السنوات المقبلة، فإن الإقتصاد في المملكة الخليجية الصغيرة يواجه ضغطاً حرجاً. وفقاً لبيان الصندوق، تحتاج الحكومة هناك إلى معالجة وضعها المالي الضعيف، من بين أمور أخرى، وإدخال المزيد من الضرائب وتقليص الدعم والإعانات.
الواقع إن الرسالة التي يدفع بها صندوق النقد الدولي منذ بعض الوقت ويوجهها إلى كثير من البلدان في المنطقة تقول بوضوح: من أجل إستقرارها الإقتصادي على المدى الطويل، تحتاج حكومات دول الخليج إلى تنويع إقتصاداتها، وتطوير مصادر أخرى للدخل والحفاظ على وضع الإنفاق تحت السيطرة.
مع ذلك، إن هذه الأشياء والخطوات من الصعب القيام بها في البيئة الحالية. طالما تُتابع عائدات الهيدروكربونات ضخها فإن الحافز لتطوير الصناعات الأخرى محدود، كما أنه من الصعب إقناع المواطنين بأنه يجب تخفيض الدعم. لكن، خلال العام الفائت كان هناك تغيّر واضح في نهج صناع القرار السياسي في جميع أنحاء المنطقة. لسنوات عدة تحدثت الحكومات حول الحاجة إلى الإنضباط المالي فيما إستمرت في الإنفاق ببذخ. الآن تحول الحديث إلى عمل، والإنفاق العام -إذا كان لم ينخفض تماماً- فبالتأكيد لم يرتفع بالسرعة التي كان يسير عليها وبالوتيرة عينها.
ويفيد معهد التمويل الدولي في واشنطن بأنه يتوقع بأن يرتفع الإنفاق في دول مجلس التعاون الخليجي بنسبة 4.8 في المئة هذا العام، مقارنة بنسبة 8.2 في المئة في العامين السابقين. “الإنفاق الحكومي سوف لن يزيد بالوتيرة عينها كما كان في السابق”، قال نائب مدير معهد التمويل الدولي غربيس إيراديان.
الشيء الذي يبدو أنه تسبب في تغيير النهج هو الإرتفاع المتواصل في سعر تعادل النفط. وهو مستوى السعر الذي تحتاج إليه الحكومات إلى بيع نفطها إذا كانت تريد أن توازن موازناتها. وخلال السنوات الأخيرة كان سعر التعادل هذا يرتفع بإستمرار وذلك بفضل الإنفاق الكبير على وظائف القطاع العام والدعم والإعانات.
وتبدو البحرين الأكثر عرضة، مع سعر التعادل المقدّر لديها يبلغ أكثر من 126 دولاراً للبرميل، ولكن جميع البلدان في المنطقة قد تأثرت. وفي معظم الحالات يبقى سعر التعادل أقل بكثير من سعر السوق الحالي البالغ نحو 114 دولاراً، ولكن من المتوقع على نطاق واسع أن تنخفض الأسعار في السنوات المقبلة، وهو ما يساعد على تركيز العقول والتنبه في وزارات المالية.
“في المملكة العربية السعودية سوف ترتفع موازنة الإنفاق في العام 2014 أربعة في المئة فقط. وهذا هو أدنى مستوى منذ أكثر من عقد من الزمن، وهي متشابهة في جميع أنحاء دول مجلس التعاون الخليجي”، يقول بول غامبل، مدير العمليات السيادية في وكالة “فيتش” للتصنيف. مضيفاً: “اذا نظرت إلى قطر، فإن موازنة الإنفاق سوف ترتفع بنسبة سبعة في المئة، وفي عمان خمسة في المئة، وبالنسبة إلى الكويت فسترتفع ثلاثة في المئة. بالأرقام المطلقة لا يزال التحفيز وتأثير الإنفاق الحكومي مرتفعاً للغاية، على الرغم من أنه يقرّبنا من اليوم الذي ستبدأ الحكومات في تقليص الإنفاق”.
عندما يحين الوقت وتأتي تلك النقطة، فإن الجزء الصعب سيكون في إتخاذ القرار والجواب عن السؤال: متى وأين سيكون التقليص أو التخفيض وبأي سرعة. بعض النواحي، مثل الأجور في القطاع العام، ربما يكون مخاطرة كبيرة جداً بالنسبة إلى الحكومات القلقة من إثارة الإحتجاجات، لذلك من المرجح أن يقع الخفض في أماكن أخرى.
“من الصعب عكس مسار الإنفاق الحالي”، يقول إيراديان. مضيفاً: “من الممكن الحد من بعض المنافع الإجتماعية في مجال الإسكان ومجالات من هذا القبيل، ولكن من الصعب خفض الأجور. وهذا يترك إنفاق رأس المال وتحديد أولويات مشاريع معينة. هناك إمكانية للحد من ذلك”.
ويبدو أن هذا ما يحدث في معظم البلدان. وفقاً لشركة جدوى للإستثمار ومقرها الرياض، إن الإرتفاع في الإنفاق في موازنة الحكومة السعودية هذا العام هو تماماً بسبب الإنفاق الجاري، في حين تم خفض الإنفاق الرأسمالي بنسبة 13 في المئة إلى 248 مليار ريال (66 مليار دولار). هذه هي المرة الأولى منذ العام 2002 تخطط الحكومة لخفض نفقات رأس المال، وعلى الرغم من أنه عادة ما تنفق أكثر بكثير من الموازنة التي تضعها، فإنه يُعتبر بياناً واضح القصد. في الكويت، على النقيض من ذلك، فإن الحكومة عادة ما تتخلّف عن تحقيق أهداف الإنفاق الرأسمالي لأنها تجد صعوبة في الحصول على موافقة البرلمان على خططها. ومع ذلك، هناك إتجاه مماثل من حيث موازنة الحكومة. إن إرتفاع ثلاثة في المئة في الموازنة لهذه السنة المالية التي بدأت في نيسان (إبريل) يعود تماماً إلى الإنفاق الجاري، في حين أن الرقم لإنفاق رأس المال إنخفض بنسبة 20 في المئة إلى ملياري دينار (7 مليارات دولار). وهذا هو أكبر خفض مسجل وفقاً للبنك الوطني الكويتي.
وقد تخلّفت الحكومة في قطر أيضاّ عن تحقيق هدفها بالنسبة إلى الإنفاق الرأسمالي في العام الفائت، وذلك على ما يبدو بسبب وجود مزيج من القضايا السياسية والمالية. لقد أدّى تسلم الأمير الجديد، الشيخ تميم بن حمد بن خليفة آل ثاني، الحكم في حزيران (يونيو) في العام الفائت إلى تنقيح برنامج مشروع خط الأنابيب للحكومة. كان من بين القرارات الرفيعة المستوى تقليص عدد الملاعب التي تُبنى في البلاد لنهائيات كأس العالم لكرة القدم 2022، من 12 ملعباً إلى ثمانية ملاعب. في الوقت عينه كانت البلاد تحت رقابة وثيقة غير مريحة بشأن معاملة سلطاتها للعمالة الوافدة، التي ربما تكون قد أدت أيضاً إلى حدوث تباطؤ في بعض المشاريع.
من جهتها كانت حكومة البحرين هي الأخرى تكافح من أجل تحقيق أهداف إنفاقها. وفقاً لصندوق النقد الدولي، واصل العجز المالي في المملكة الخليجية الصغيرة في الإرتفاع في العام 2013، إلى 4.3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، لكن ذلك كان أقل من المتوقع بسبب النقص في إنفاق موازنة رأس المال. ربما كان هذا هو مزيجاً من إتباع نهج أكثر حذراً من قبل الحكومة والتوترات السياسية الجارية في البلاد التي تبطىء المشاريع.
في دولة الإمارات العربية المتحدة في الوقت عينه، كان هناك إنخفاض في الإنفاق على مجالات مثل الأمن والدفاع. وفقاً لصندوق النقد الدولي إن التقليص المالي في أبوظبي يعادل نحو ستة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي.
في حين أن الإنفاق الرأسمالي تحمل العبء الأكبر من تشدد النظام المالي وشد الأحزمة في دول الخليج، فقد كان هناك أيضا بعض المحاولات الأولية للحد من عناصر الإنفاق الجاري.
رئيس الوزراء البحريني الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة إستبق نصيحة صندوق النقد الدولي الأخيرة قبل بضعة أشهر عندما، في شهر آذار (مارس) الفائت، أوعز إلى وزارة المالية والبنك المركزي لإيجاد وتطوير الأفكار للحد من عجز الموازنة والسيطرة على الدين العام. الخطة، التي إقترحها ، ينبغي أن تشمل ترشيد الإنفاق الحكومي وتقليص حجم الهيئات المملوكة للدولة – وهو الأمر الذي من شأنه أن يقلّل فاتورة الأجور. في بلدان أخرى، بما في ذلك سلطنة عمان والكويت والإمارات العربية المتحدة، بدأت الحكومات نقاشاً عاماً حول الحاجة إلى إستبدال الدعم الشامل بمساعدة مالية أكثر إستهدافاً. ومن المرجح أن يكون الدعم للوقود الهدف الأولي في البلدان الثلاثة. وليس من الواضح تماماً بعد متى يمكن إجراء أي تخفيضات، ولكن الحقيقة أنه بمجرد أن المسؤولين الحكوميين باتوا على إستعداد للحديث عن هذه القضية والتطرق إليها فإن ذلك في حد ذاته يعتبر أمراً ملحوظاً.
“إن فاتورة الأجور في القطاع العام حالياً هي عالية جداً بالنسبة إلى الإنفاق العام والإعانات ترهق موازنة الدولة”، قال وزير المالية الكويتي أنس الصالح في مؤتمر عن التنمية الإقتصادية إستضافته وزارته وصندوق النقد الدولي في أواخر نيسان (أبريل) الفائت.
هذا، بالطبع، يمثل موضوعاً صعباً للحكومات لمناقشته أو التطرق إليه. إن النظام السياسي في الخليج يعمل على أساس “صفقة إستبدادية”، حيث تمارس النخب الحاكمة سلطة مطلقة وفي المقابل توفر الدولة الرعاية الإجتماعية من المهد إلى اللحد. إن قطع الدعم والإعانات يمكن أن يقوّض هذا النظام، لذا تراقب الحكومات عن كثب لمعرفة ما هو تأثير أي تخفيضات في أول بلد خليجي شجاع بما فيه الكفاية للقيام بذلك. والسؤال الثاني الذي يكمن على المدى الطويل: ما هو تأثير أي خفض للإنفاق على الإقتصاد ككل؟ نظراً إلى المكانة المركزية للحكومات في جميع هذه الإقتصادات، فإن الخطر هو أنه يمكن أن يؤدي إلى تباطؤ في معدّلات النمو على نطاق أوسع.
“على مدى العقد الفائت، أصبح القطاع الخاص في دول مجلس التعاون الخليجي يعتمد جداً على الإنفاق الحكومي المرتفع وعلى العقود الحكومية”، يقول غامبل. مضيفاً: “وليس من الواضح ما الذي سيحدث للقطاع غير النفطي عندما تبدأ الحكومات بخفض الإنفاق”.
الأدلّة من المملكة العربية السعودية توحي بأن التأثير قد يكون سلبياً. وفقا لشركة “كابيتال إيكونوميكس” ومقرها لندن، إن النشاط في القطاع غير النفطي يفتقر إلى الزخم هذا العام. وقد إنخفض توسّع القطاع غير النفطي بنسبة 3.5 في المئة، على أساس سنوي في نيسان (إبريل) من 3.8 في المئة في الربع الأول.
“لقد تقلّصت الواردات غير النفطية في المملكة على صعيد سنوي خلال الأشهر العشرة الماضية”، أفاد “جايسون توفاي”، مساعد إقتصادي في “كابيتال إيكونوميكس”، في مذكرة بحثية نشرت في أوائل حزيران (يونيو). “نحن نشك في أن القطاع غير النفطي سوف يشهد تحوّلات حادة في القدرة. إن السياسة المالية من المرجح أن تكون أقل دعماً للنمو على مدى السنوات القليلة المقبلة، حيث أن الحكومة تتطلع إلى الحفاظ على الإستدامة المالية على المدى الطويل”، على حد تعبيره.
رغم جميع الصعوبات التي قد تبرز ببطء، فإن الأمور لم تصل بعد إلى نقطة حرجة بالنسبة إلى معظم الحكومات الخليجية. إن معظمها، إن لم تكن كلها، راكمت إحتياطات كبيرة خلال الطفرة النفطية والتي سوف تساعدها على إجتياز أي تراجع على المدى القصير في أسعار النفط. في الوقت عينه، إن معدلات النمو الإقتصادية لديها ما زالت قوية نسبياً وفقاً للمعايير العالمية، حيث أن صندوق النقد الدولي يتوقع نمواً بمعدل 4.2 في المئة لدول مجلس التعاون الخليجي هذا العام.
هذا يعني أنها لا تحتاج إلى التسرع في خفض الإنفاق، ولكن أسعار تعادل النفط العالية لديها يعني أنها ستكون معرضة بشدة خلال أي فترة طويلة من إنخفاض أسعار النفط. وهذا بدوره يعني أن خفضاً من نوع ما في الإنفاق يبدو أمراً لا مفر منه في السنوات المقبلة.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.